نستطيع القول دون مبالغة، أن قضية الدعم أصبحت الآن، الشغل الشاغل لعموم الناس والمسئولين في مصر، وصارت محلا للنقاش والجدل والأخذ والرد، وهو ما نتمني أن يمتد ويتواصل ليتحول إلي حوار مجتمعي شامل بمعني الكلمة، تقوم عليه، وتنظمه، وتديره جميع الفاعليات الفكرية والثقافية المتخصصة والواعية في المجتمع، وفي مقدمتها الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية، باعتبارها القاطرة الحقيقية للمجتمع المدني بكل مؤسساته وهيئاته، وباعتبارها ايضا بنك العقول والافكار في أي مجتمع، والأكثر قدرة علي التعبير عن التوجه العام للمجتمع وتعدد الرؤي فيه.
وبعيدا عن محاولات التشكيك التي يمارسها البعض لإثارة جو من التوجس والريبة حول قضية الدعم، وإصرارهم الدائم علي الترويج المستمر لإدعاءاتهم بأن هناك نية لدي الحكومة لرفع الدعم وإلغائه، وأن إثارة القضية في هذا التوقيت انما تهدف لتحقيق ذلك.
وبعيدا عن الإحباط الذي أصاب هؤلاء المروجين للإدعاءات، وأولئك الساعين لإثارة المخاوف والتوجسات والريب، بعد التأكيدات القاطعة والمتكررة من الحكومة، بأنه لا إلغاء للدعم، ولا صحة علي الإطلاق لأي قول يخالف ذلك،...، وان توجيهات الرئيس مبارك واضحة في هذا الشأن، وهي أن إلغاء الدعم أو رفعه غير وارد ،...، بل ان المطروح والمطلوب هو المزيد من الرعاية للفئات غير القادرة، من محدودي الدخل، في اطار التوجه الواضح للدولة للأخذ بمبدأ العدالة الاجتماعية والتوسع فيه.
وان الهدف من طرح القضية للمناقشة والبحث والحوار الآن، هو التوصل إلي توافق مجتمعي عام، حول افضل السبل لوصول الدعم إلي المستحقين الحقيقيين له من الاسر الفقيرة والفئات المحتاجة للمساندة لتمكينها من الوفاء باحتياجاتهم المعيشية، وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم ولأولادهم.
بعيدا عن كل ذلك، نقول ان هناك قضية تتقدم علي كل هذه القضايا الآن، وتحتاج إلي معالجة، سريعة وحاسمة وفعالة للقضاء عليها بصفة عاجلة نظرا لما تمثله من تحد كبير للحكومة، وما تسببه من معاناة للجماهير، وما ينتج عنها من اساءة وألم للمجتمع كله، وما تعطيه من انطباع غير حسن، وغير كريم عن مصر بوصفها دولة ناهضة الآن، وصلت بنسبة النمو الاقتصادي بها إلي أكثر من 7 % ، وزادت الاستثمارات فيها زيادة واضحة، واصبحت مؤهلة للخروج من دائرة الدول النامية، والدخول الفعلي في مصاف الدول الناهضة، والسائرة علي طريق التقدم والحداثة.
وهذه القضية التي نتحدث عنها والتي تتطلب الاهتمام العاجل والكامل من الحكومة، وكذلك من الحزب الوطني، بوصفه حزب الأغلبية الحاكم ،...، هي قضية طوابير الخبز.
وقضية الطوابير الطويلة والممتدة أمام المخابز في القاهرة وغيرها، تعد بكل المقاييس وعلي جميع المستويات بقعة غير مضيئة تسيء في ظاهرها وجوهرها إلي الشعب والحكومة معا، وتتطلب وضع نهاية عاجلة وفورية لها بالأمس قبل اليوم،...، واليوم قبل الغد.
فليس معقولا ولا متصورا، ان نتحدث عن مصر التي اصبحت بالفعل جاذبة للاستثمارات العالمية، ومحط أنظار رجال المال والأعمال في العالم، والكل يريد ان يأتي لإقامة المشروعات بها، والاستثمار فيها،...، وان تعاني مصر في نفس الوقت من هذه الآفة المسماة بطوابير الخبز،...، وان تنقل وكالات الانباء، والفضائيات صور هذه الطوابير المنتشرة في احياء كثيرة من القاهرة، وغيرها من المدن الرئيسية.
وليس مقبولا علي الإطلاق ان تستمر هذه الطوابير بكل ما تمثله من اساءة، مهما كانت الأسباب والدواعي، لان مجرد عدم القدرة علي وضع نهاية عاجلة وفورية لها يعد اساءة بالغة لنا جميعا شعبا وحكومة، ويعد بالفعل نوعا من 'الشح' في الافكار والعجز عن الوفاء بالخدمات الواجب توافرها للناس بأكبر قدر من الجودة وأقل قدر من المعاناة.
ليس هذا فقط، بل وازيد عليه بالقول ان استمرار هذه الظاهرة غير الصحية بالمرة، بل والمغرقة في السلبية يعطي دلالة بالغة السوء، تصل في سوئها إلي الدرجة التي تحجب فيها الرؤية الموضوعية والمنصفة عن ايجابيات كثيرة تحققت علي أرض مصر خلال السنوات الماضية، في إطار التحديث والتطوير، الجاري بهمة ونشاط كبيرين،...،. كما أن استمرارها يوفر الذريعة لأصحاب النظارات السوداء، لترويج ادعاءاتهم المحبطة، ورؤاهم المتشائمة للواقع والمستقبل.
***
اقول هذا رغم علمي بأن هناك جهدا كبيرا تقوم به وزارة التضامن الاجتماعي للقضاء علي هذه الظاهرة التي لم تبدأ اليوم، بل تعود في اسباب كثيرة منها إلي وزارات ما قبل الوزارة الحالية برئاسة الدكتور نظيف، وقبل تولي الدكتور علي المصيلحي الوزارة الحالية، بعد إلغاء وزارة التموين وضمها ضمن قطاع التجارة الداخلية إلي وزارة التضامن، علي اعتبار انها تتولي مسئولية المواد المدعمة الموجهة إلي الأسر محدودة الدخل في الأساس.
واقوله رغم علمي بأن وزير التضامن لديه رؤية واضحة للقضاء علي هذه الظاهرة، وهي رؤية صحيحة، تقوم في اساسها علي فصل الإنتاج عن التوزيع بالنسبة للخبز، أي أن تكون المخابز مسئولة عن إنتاج الرغيف فقط، أما التوزيع فتتولاه جهة أخري منفصلة عن المخابز.
ولكني اقوله لمعرفتي بأن اكتمال هذه المنظومة وبدء تعميمها في كل احياء القاهرة، وكذلك في غيرها من المحافظات، والمدن الكبري، والصغري، بطول وعرض مصر، يستغرق وقتا ليس بالقليل كي يحقق اغراضه، وحتي تنتهي عملية انشاء منافذ البيع، وشركة التوزيع التي ستتولي عملية توزيع رغيف العيش بعد تسلمه من المخابز. كل ذلك يحتاج إلي وقت كي يتم علي الوجه الأكمل، وكي يؤتي ثماره، وتظهر نتائجه، ويتم القضاء علي طوابير الخبز الممتدة امام المخابز في الاحياء والمناطق الشعبية، التي تعاني أكثر من غيرها، نظرا لتكدسها بالفئات الشعبية ومحدودة الدخل التي تعتمد في غذائها بصورة اساسية علي رغيف الخبز المدعم.
واقوله لإدراكي المؤكد، أننا لا نملك رفاهية الانتظار علي استمرار هذه الظاهرة السلبية، حتي تكتمل هذه المنظومة وتبدأ في الانتشار المؤثر في جميع الاحياء الشعبية، وبقية الاماكن، وهو ما يحتاج إلي عدة شهور،...، قد تمتد وتطول أكثر من ذلك، حتي يتم القضاء علي هذه الظاهرة ، ووضع نهاية لمعاناة الجماهير منها.
***
من أجل ذلك، فإن الضرورة تقتضي من جميع الأجهزة بالدولة الاستشعار بأن هناك ضرورة حتمية للتحرك السريع والفعال لوقف هذه الظاهرة، وإيجاد حل عاجل لها يتم الأخذ به بصورة مؤقتة حتي يتم الانتهاء من المنظومة المتكاملة التي تقوم وزارة التضامن بإعدادها، لمواجهة هذه الظاهرة بحسم تمهيدا للقضاء عليها نهائيا.
وأحسب أن هذا التحرك لابد أن يكون للمجتمع المدني دور أساسي فيه، وأقصد في ذلك الأحزاب السياسية، وفي مقدمتها الحزب الوطني الديمقراطي، بوصفه حزب الأغلبية، وبوصفه أيضا الحزب الحاكم باعتبار أن الحكومة الحالية هي حكومة الحزب الوطني، وذلك يلقي علي الحزب مسئولية بذل أقصي الجهد للتخفيف من معاناة الناس بالتعاون مع الحكومة، وإيجاد حل عملي وسريع لهذه المشكلة التي يتعرض لها المواطنون.
وحتي لا تكون دعوتنا تلك مجرد دخان في الهواء، فإننا نطرح في ذلك اقتراحا محددا لعله يساعد للوصول إلي الهدف، ونضعه تحت أعين الحزب وحكومته كفكرة قابلة للتطبيق السريع والعاجل، بعد البحث والتمحيص.
وفي هذا الشأن نقترح أن تقوم أمانات الحزب في المحافظات والمدن والأمانات في المراكز، والأحياء وكذلك الأمانات الفرعية، وبالتعاون مع وزارة التضامن، والمحافظين، بإعداد منافذ مؤقتة ومتحركة لتوزيع الخبز، داخل الاحياء، والمناطق الشعبية سواء في القاهرة أو غيرها من محافظات مصر، بحيث يصبح في كل حي، أو منطقة شعبية العديد من المنافذ الكافية لبيع الخبز للقضاء علي الطوابير المكدسة أمام المخابز.
واحسب أن صندوقا خشبيا نظيفا، أو قفصا كبيرا من الجريد مغطي ومحمولا علي 'تيروسيكل' يكفي كمنفذ مؤقت سواء كان ثابتا أو متحركا، وخمسة أو عشرة منافذ علي نفس الشاكلة بجوار كل مخبز في الأماكن الشعبية المزدحمة والمكدسة بالمواطنين، يحول المخبز ذو المنفذ الواحد للتوزيع وللبيع، إلي عشرة منافذ للبيع،...، وهذا يقضي علي أكثر الطوابير طولا في زمن قياسي،...، وكل ما يحتاجه هو عشرة من الشباب صغير السن الحاصلين علي مؤهل متوسط، والباحثين عن العمل، واعتقد انهم يرحبون بذلك نظير اجر يومي لن يزيد علي عشرة أوخمسة عشر جنيها في اليوم.
***
واعتقد أن تنفيذ هذه الفكرة المغرقة في البساطة، لا يحتاج إلي وقت، أو عملية إعداد تطول مع الزمن، فالأمر كله لا يحتاج إلي أكثر من 'التيروسيكل' والصندوق الخشبي، والقفص من الجريد، وأن تقوم أمانات الحزب باختيار الشباب، وتحديد أماكن التواجد والتوزيع، والاشراف الكامل والمتابعة المستمرة،...، مع الحكومة.
وإذا ما فعل الحزب ذلك وأخذ بهذا الاقتراح وتلك الفكرة، وانتهت الطوابير،...، سيكون لها مردود شعبي كبير، وسيكون ايضا وهذا هو المهم قد ساهم في القضاء علي معاناة الجماهير اليومية.
وإذا كانت هناك مشكلة أو عقبة أو ازمة في 'التيروسيكل' يمكن أن يتم استبداله بكشك خشبي صغير وبسيط يكون مكانا مؤقتا يستعمل كمنفذ لتوزيع وبيع الخبز، وينتهي عمله بمجرد اقامة منافذ البيع الدائمة والثابتة التي تقوم وزارة التضامن بإعدادها في خطتها التي يجري تنفيذها حاليا.
وبالطبع يمكن الاستفادة من الشباب بعد ذلك في شركة توزيع الخبز التي تقوم وزارة التضامن الآن بالإعداد لإنشائها.
***
ومرة أخري، أقول بوضوح ان هذه الفكرة أو ذلك الاقتراح يأتي في إطار ضرورة التعجيل والإسراع بالقضاء علي طوابير الخبز التي لا يحق لنا السكوت عنها أكثر من ذلك، ويجب ألا تكون موجودة أصلا وأساسا في الألفية الثالثة، وفي دولة مثل مصر تشهد الآن نهضة شاملة في جميع المجالات، وبدأت في التحول الجاد لتكون دولة واعدة وجاذبة للاستثمارات العالمية.
واقوله من منطلق الإيمان الكامل بحرص الرئيس مبارك الدائم والمستمر علي رفع المعاناة عن الناس، خاصة الفئات الشعبية المحتاجة للمساعدة والأكثر استحقاقا للوقوف بجانبها ورفع المعاناة عنها.
وكذلك لاقتناعي الكامل بأن الحزب الوطني وحكومته يسعيان بكل الجدية لتنفيذ توجيهات الرئيس في هذا الشأن، وذلك في إطار العدالة الاجتماعية.
كما يأتي هذا الاقتراح وتلك الفكرة اتساقا وتوافقا مع ما تعمل وزارة التضامن علي إنجازه حاليا بفصل الإنتاج عن التوزيع وزيادة منافذ البيع للخبز.
***
وبقيت حقيقة لابد أن نذكرها بوضوح، وهي أن جزءا من مشكلة الخبز، ومشكلة الرغيف المدعم بصفة عامة، يعود في جوهره وأساسه إلي الفارق الهائل في سعر الدقيق المدعم وسعره الحر في الأسواق المحلية والعالمية،...، هذا الفارق الذي زاد الآن علي عشرة أضعاف السعر اصبح يشكل إغراء كبيرا بالنسبة لبعض اصحاب المخابز يدفعهم لتسريب جزء من الدقيق الذي يحصلون عليه بسعر منخفض 'مدعم' ويبيعونه في السوق بالسعر الحر ويستحلون لأنفسهم الحصول علي فارق السعر الكبير.
واذا ما علمنا أن سعر شيكارة الدقيق المخصص للخبز المدعم لا يتجاوز (16) ستة عشر جنيها، وسعرها في السوق يتجاوز (160) مائة وستين جنيها، لأدركنا الفارق الكبير بين السعرين الذي تحول إلي إغراء كبير لمن تسمح ضمائرهم بذلك، وهو ما خلق مافيا جديدة كل عملها ونشاطها في تسريب الدقيق المدعم والحصول علي ارباح خيالية.
وهو ما يؤدي في النهاية إلي عجز في كمية الرغيف المدعم الذي تتحمل الدولة تكاليفه بهدف ان يصل الي مستحقيه ولكنه في بعض الاحيان لا يصل،...، وهذا العجز يزيد ايضا من مشكلة الطوابير ويزيد من معاناة الناس.
ومشاكل الخبز عديدة منها أيضا أن هناك فاقدا يصل إلي حوالي 30 % من كميات الخبز المدعم نتيجة انخفاض سعره الذي دفع البعض لاستخدامه كبديل عن العلف للمواشي والدواجن، نظرا لارتفاع اسعار العلف،...، وهذا التسرب يزيد ايضا من معاناة الناس.. لان هناك نقصا أو فاقدا قدره 30 % من كميات الخبز كان مفروضا ان يتم توفيرها لكل من يحتاج الخبز ويطلبه،...، وهذا النقص يخلق ايضا طلبا متزايدا، ويخلق طوابير وهو ما يزيد من معاناة الناس في الحصول علي سلعة اساسية ورئيسية ومهمة لكل الناس، خاصة الفئات محدودة الدخل المحتاجين للدعم والمساندة.
***
والآن.. هل تنتهي مشكلة الطوابير؟!
وهل تنتهي معاناة الناس؟! اتمني أن يتحقق ذلك قريبا.